مباديء التحويل الفكري_الجزء الثاني



لا زلنا نتحدث عن " الحقيقة " ذلك الوسط النقي الذي تحدث من خلاله عملية التحويل الفكري .. 

ولأن الحقيقة ليس لديها أي إستثمار في عواطفك فإنه لا يهمها إن كنت مستلطفا لها أم لا .. فمهمتها أن تظهر لك بوجهها الحقيقي من غير عمليات تجميل.. وكلما كنت ناضجاً أكثر ومستعداً لرؤيتها كشفت لك جزءا آخرا من وجهها.

وقد ألمحت في الجزء الأول من المقال أن هناك ثلاثة مراحل تحوّلية يحدث عندها النضوج الفكري وأول تلك المراحل هي ( الإحتراق ) وهي مرحلة صعبة ومكلفة وتعدّ المدخل الأول لعملية رفع الحُجب العقلية ولمس سقف الإدراك .. في الغالب نحن ندخل بوابة التغيير والتحولات الفكرية جراء احتراق شيء ما داخلنا وهو ما يولد لحظات " الغضب أو السخط أو القهر أو العار " تلك المشاعر الطافية ما هي إلاّ أبخرة لثورة بركان يغلي داخل النفس البشرية ولأننا نريد أن ننضج ونتغير فمن الأولى أن نتعامل مع جذر النار عوضا عن التعامل مع أبخرته المتصاعدة في الهواء.

لذا علينا أن لا ننشغل بعلاج المشاعر الطافية على السطح بتبديدها وحسب بل لا بد أن نبحث في العمق عن جذوة النار التي تسبب " الحريق" في كل مرة .. 

فلتسأل نفسك في لحظة تأمل صادقة لماذا أغضب أو أُقهر أو أشعر بالعار من ذات الموقف في كل مرّة؟؟ عليك أن تبحث هنا في دواعي ذلك الشعور كاشفا عن جذره المشتعل لتسكب عليه ماء قبولك له وحبك وعطفك عليه لعلّه ينطفئ للأبد .. 

في الصِّغر ولوقت قريب كنت كلما سمعت وصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه فقال:( أوصني يا رسول الله، فقال له " لا تغضب ") .. أتعجب من هذه الوصية وأشعر بأنها صعبة التنفيذ فكيف للمرء أن يلجم نفسه ساعة الغضب وكيف له أن يتدارك حِمم مشاعره المشتعلة .. حتى أدركت أن كل هذا ممكن إن نحن قصدنا أن نتحول من التعامل مع " الشعور" إلى التعامل مع " الجذور" .. إن قررنا ارتداء نظارة الحياد ورؤية الأمور من مكان مرتفع .. نقرر فيه من الداخل أن " لا نشخصن" الأمور.. في تلك اللحظة من تحييد المواقف تروق الأجواء ويتبدد دخان المشاعر المثارة وتتضح الرؤية وتولد الحكمة. 

وما أن تسكب ماء تقبلك لما حدث وتعبّر عن شعورك بحياد وتفرغ غضبك باتزان دون أن تكسر أو تجرح وبعد أن تتنفس وتهدأ وإن استطعت تتوضأ لتنقشع أبخرة الشعور الخانق .. هنا ستصل بنفسك لمرحلة " الإذابة" التي يُعنى بها الماء .. وهذا ما تحتاجه بعد أن تلسعك النار. 

ماء الوضوء ماء الحب ماء القبول الذي سيُغرق معه كل لوثات الروح وشوائب الأنا.. لتبقى قيمك راسية فوق قمّة فطرتك السويّة التي لا تغرق أبداً.. فهي من تسعفك بعد كل حادثة غرق تطلب فيها من الله النجاة .. حينها سيردّك الله إلى تلك القمّة (الفطرة) التي يستوي عندها أمرك .. 

في تلك المرحلة تحتاج أن تلبس سترةً آمنة من الإجابات لترد على بحر التساؤلات الذي سيغمرك ليُخرج منك كل مشاعرك المكبوتة وإن جرت عليها الأيام والسنين .. تلك التساؤلات المضيئة ستنير لك مواطن الإجابة داخل النفس المظلمة،، فتسأل نفسك: ما الشيء الذي احترق فيك؟؟ ما الفكرة التي تحجب عنك النور؟ وما المعتقد الذي يؤذيك؟؟ 

دع الحقيقة تجيب عنك هذه المرة فلربما الذي احترق فيك " كان فكرة غير خادمة مفادها : أنك غير مرغوب فيه " .. ولأنها قد تكون مزروعة في ذهنك منذ زمن فجذرها ضاربٌ في منظومتك الفكرية ومتجذّر في مخيلتك حد التهيّؤ .. ما تحتاجه هنا هو أن تستمر في طرح الأسئلة على نفسك وتتعمّق في التنقيب عن جذور تلك الفكرة وتستقبل كل الإجابات مهما كانت مؤلمة وتستجمع روحك في جلسة مصارحة لتشفي آلامك وتتقبل جروحك كما هي.. ولتفرغ عليها بعد ذلك ماء حبك وعطفك وتساعدها على الشفاء الذي سيطفئ معاناتها للأبد .. هكذا تُحرق" حُجب الأفكار الضارة " دون أن تحترق روحك. 

والآن ما الذي جعلك تشعر بأنك غير مرغوب؟؟ هل هي كلمة ألقيت في أذنيك في محيط البيت أم فناء المدرسة أم في أزقة الحي الذي كنت تلعب فيه .. أين وثّقت تلك الكلمة في ذهنك وما الموقف الذي تبنيّته حينها وما الشعور الذي سكن فؤادك وقتها؟ .. أفرغ إجابات كل تلك الأسئلة وحاور تلك النفس التي بين جنبيك كطفل صغير يُفضي ما في قلبه لأمه كي يرتاح .. وبعد أن تنفض ما بجعبتك من أوجاع .. احتضن طفلك الداخلي بكل حب وقل له " أنا معك ولن أتخلى عنك " .. دع الحب يشفييك ويأوييك ويطبب جراحك.

تدعى هذه المرحلة بمرحلة " التفريغ العاطفي" وهي ثاني مراحل التحوّل الفكري ففيها تنتقل لمستوى متقدم من الحياد والتحكم بزمام شعورك الغاضب أو الهارب أو الغارق .. ستصبح حينها خيّالاً ماهرا يعرف كيف يقود جواد مشاعره الجامحة. 

وبعد مرحلة " الانتزاع العاطفي " تلك تأتي المرحلة الثالثة للتحوّل الفكري وهي مرحلة ( الفصل) لتأخذ من معتقداتك ما ينفعك وتترك ما لا يناسبك. 

وهنا يحدث التطوّر وتتشكّل العقلية الناضجة بعد أن اكتسبت صفة الحياد وتأصلت فيها صفة تجريد المعتقد من الأحكام والفرضيات والمشاعر والاستنتاجات .. لترى نفسك بحقيقتها كما هي من دون أقنعة تُخفي جذور تكوينك والتي ساهمت في تشكّل شخصيتك. 

فتفرز قيمك وتجرّدها من الأحكام لتنظر مثلاً إلى " الأنانية " بشكل محايد دون أن تضفي عليها أي شعور متحيّز أو حكم جائر .. فتفصل الحكم والشعور عن تلك ( القيمة ) لتأخذ منها ما ينفعك وتترك ما لا يناسب مبادئك .. ولتأذن حينها للتكامل أن يحدث بين " مبادئك الراسخة وقيمك المتحركة " .. 

فلو كان من مبادئك أن لا تأكل حقوق الناس ولا تظلمهم فهنا لن تفعّل قيمة الأنانية بشكلها القبيح .. بل ستختبر تلك القيمة من منطلق أن تمارس حقك في سير مصالحك دون أن تتعدى على مصالح غيرك .. ستفعّل الأنانية بشكل متّزن حين تغلق هاتفك مثلا وقت خلودك للراحة فمن حقك أن لا تجيب أحدا عندما يتعلق الأمر بالتقاط أنفاسك لتتابع في اليوم التالي تأدية رسالتك في الحياة .. فالأنانية هنا قيمة محايدة عندما تتكامل مع المبادىء السامية .. وقِس على ذلك كل ( القيم المتحركة) في المجتمع .. صدقني عندما تصبح محايدا سيصبح لديك  " تفضيل وتمييز" للقيم .. لن تلجأ " للحكم" على الأمور .. لن تستعمل تلك الصبغة ما لم يمس الموقف عقيدتك .. لن تشخصن المواقف للحد الذي تتأزم معه حياتك.. ستجد أن بعض الصفات المتعلقة بالقيم مهمة في مكان ومنبوذة في مكان آخر ستقدّر هذا كلما نضجت ووُلدت في داخلك الحكمة. 

وبعد أن تفصل وتأخذ ما تريد ستضيف ما أخذته واستحسنته وتسكبه في نفسك  في وصلة تزاوج بين مشاعرك المستجدة والمتزنة ووعاء ذهنيتك المتولّدة من جديد في رحلة متمّمة لمرحلة الفصل التي تحدثنا عنها وتدعى " بالتزاوج ".. حينها سيتم ولادتك. 

سمة هذه المرحلة هي " الأخذ والإضافة " لتحدث بعدها الولادة وليأتي المولود بعد عملية تزاوج صحي بين "المشاعر والأفكار" .. ومن الطبيعي أن يكون ذلك المولود ضعيفاً في البداية .. لذا فهو يحتاج إلى رعاية واهتمام منك .. وهذا حال أي مشروع جديد يظهر على وجه هذه الأرض يحتاج " لتخمير " ريثما يكبر .. لذا يتعين عليك فصل ذلك الوليد عن الجزء الخارجي من العالم  كي تنأى به عن كل المؤثرات واللوثات الخارجية التي قد تفسده .. فتخمير المشاريع الوليدة والأفكار الجديده تتطلب منك أن تتنفسها في كلماتك ومواقفك وسلوكياتك كي تثبت وتتصلب وتكبر وتضرب لها جذرا في أرض وعيك. 

في النهاية .. كلما تعرفت على جذور مشاعرك واكتشفت عود الثقاب الأول الذي سبب كل الحرائق والحروب داخلك كلما اختصرت على نفسك فترات الاختناق بدخان الشعور المُثار في لحظات غضبك أو يأسك .. وكلما كنت قادرا على تحييد أحكامك وتجريد المواقف من عواطفك المتأججة كلما أمكنك من الرؤية بضوح لتكتشف ( جذر السبب المحترق ) والذي أدى إلى النتيجة الكارثية .. وبمجرد أن تلمس السبب وتعالجه تنتهي المعاناة بغض النظر عن عمرها ومكان نشأتها ومسببها .. إذا عرفت كيف تُتلف تلك الأسباب وتنتزعها عاطفيا بحب وتقبّل سيكون بوسعك أن تزرع سببا آخر يدفعك لأن تكمل الحياة بمنظور جديد تزهر معه دنياك وتحصد فيه نتائج أخرى أكثر إشراقا. 

فأنصت لصوت قلبك وتحمّل نور الحقيقة مهما كانت ساطعا وصادما .. ففي وهجه الشفاء لكل الظلام الذي أحاط بك يوما ..ها قد جاء الوقت الذي تستحق أن تعيش فيه دون قناع .. بفطرتك النقية لتواجه بشاعة العالم المزيف بطبيعتك الصادقة فكن شجاعا لتواجه واقعك بجروحك الذي أودعت فيها أرصدة خبرتك واشكر الحياة على كل الدروس التي جعلتك يوما تتألم وتنضج في ذات الوقت .

اعمل على أن تكون ذلك ( العنصر النبيل ) الذي يسعى دوماً للحياد في المواقف التي تقدمها له الحياة،، كن شامخاً في نظرتك للأمور وأطلّ على تجارب الدنيا من مكانٍ عالٍ يليق بك .. لتكشف لك الحياة عن كنوز حكمتها أكثر وأكثر ..

فكن جاهزا يا صاح لتتممّ مرحلة التحويل الفكري تلك ضمن دارةِ عمرك معتبراً أن كل ما جرى عليك من أحداث قد ساهم في تكوين معدنك وإحالته" لذهبٍ" صافٍ في مختبر العُمر الذي جرت فيه كل تفاعلاتك الحسيّة والعقليّة والجسدية لتخرج أنت كما أنت " بنسختك الفريدة " وبكل ما أوتيت من جمال. 



#دعاء_العواودة

#القاهرة



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تقنيات التدخل في التدريب

حوار " الآيكيدو "

أنا وشيء من وجع