التراكُبيّة في العلاقات


ها هي تجارب السنين  لم تزل تكشف لي عن وجه الحياة بكل بتجلّياتها وحكاياتها الدفينة .. ها أنا ذا أُنصت لصوت الحكمة الآتي من وراء حادثات الأيام .. ها أنا ذا أُدرك في الوقت الضائع أننا معشر البشر " لا نتفق في فهم الواقع بل نختلف " نحن نختلف أيها القارىء حدّ الإبداع .. نختلف بشدّة وهذا الاختلاف هو من أنجب لنا كل هذه التباينات والمقاربات حول العالم ؛ هذا الاختلاف هو من حفّز العقول وحرّضها على التلاقح ، لتحمل لنا أجنة الأفكار البديعة ولتنجب وجه الجمال المتبختر في هذا العالم .

ولأن لكل منّا خريطتة الإدراكية التي شكّلتها (قراءاته، ومقارناته، وتربيته، وفهمه للواقع، وقيمه).. فإنّا قد كُلّفنا بتجويد تلك الخرائط وإعادة تصميمها بما يضمن تقدّمنا العلمي وثباتنا العقائدي .. لذا كان لزاماً علينا أن نتخيّر أحدث الأدوات وأرقى الخامات وأجود الأساليب لنخرج " بالعقلية المتحضّرة " التي سنُشرّف بها أمتنا في محافل التاريخ.

فها أنا ذا بعد أن سار بي مركب الوصول وعبرتني كل الفصول وأثناء المسير وِجهَة الشاطِي ،، وفي لحظة استغراقٍ فكرية  سحبتني أمواج تأملاتي لأستيقظ وسط بحر هائج من المشاعر وعاصفة عاتية من الإدراكات التي كادت أن تقتلع أشرعة وعيي ،، ولأني اخترت أن أنجو فقد آثرت على أن لا أقاوم تلك العاصفة وأن لا أصارع ثورة الأمواج الغاضبة.. قررت أن أستكين وأسمح لكل شيء بأن يعبر ،، قرّرت أن " أراقب" حركة الموج وأتبع ذلك الاضطراب لأصل إلى بؤرة العاصفة حيث الهدوء والحكمة.

لا تظن أيها القارئ وأنت تقرأ ذلك الوصف العابر أنك تقرأ مقطوعة أدبية وحسب .. بل كنت تطّلع على "خارطة طريق " توضّح مسار العقل نحو الوجهة التي اختار أن يتبعها ويصل إليها .. وهذا المسار يُدعى بالعقلية : التي تُعنى باختيار (أسلوب التفكير) وشكل الاستجابة وطريقة العبور من فهمك إلى المقصود .

للوهلة الأولى التي أضاء فيها مصباح الوعي حجرة عقلي المكتظّة بالأفكار ،، أدركت أننا نرتبط في علاقاتنا مع الآخرين بثلاثة منافذ من خلالها تترابط الأرواح رباطاً وثيقاً ويُختم فيها على معابر القلب، ولقد أطلقت على ذلك الترابط مصطلح " التراكُبيّة في العلاقات" كنايةً عن (تركيب وتجميع قطعٍ متباينة ومختلفة للحصول على لوحةٍ متمازجة بديعة ومُعبّرة) .. وفي العلاقات أقصدُ هنا "شُركاء الدّرب" الذين جُمعت أرواحهم ورُكّبت"عقلياتهم وقلوبهم واحتياجاتهم" في بوتقةٍ واحدة ضمن طقوس التزاوج .. ليغدو الجسدين والعقلين والقلبين المتفرّدين بخرائطهما الإدراكية وانتماءاتهما السياسية ربما واختلافاتهما العرقية أحياناً " كروحٍ واحدة " .. فتجدهم كقطع البازل الثمينة لم يمنعهم اختلافهم الفريد على أن يركب كل منهما في الآخر لينصهران معاً بشكل جذّاب مشكّلين نموذجاً مشرّفاً لكيمياء الأرواح وخيمياء القلوب وفيزياء الجسد . 

وتلك المنافذ تترتب كالآتي : أولها " العقل " .. يليها " القلب " وتتبعها " المّادة " أو الجسد.. 

عبر منفذ العقل ( يُوقَّع العقد الأول للروح ) .. عند هذا المستوى" ستجد من يفهمك " .. ستشعر بأن عقليتك تركب بشكل سلس مع عقلية الشريك ،، يمكن لك أن تصف شعورك حينها بأنك وجدت المُفتاح الذي باستطاعته فتح خزائن أفكارك لتتحرّر وتُحلّق وتتنفّس .. وهذا لا يعني أن يوافقك الشريك في كل ما تقول فلربما اختلف معك وعارضك ولكن اعتراضه لا يسُدّ مجرى أفكارك واختياراتك بل يجعلها تتشعب في أكثر من اتجاه لتتّسع لديك الرؤيا ولتختار بحق أين تريد أن تتدفق .. ستشعر معه بأنك " تنضج " وبستان وعيك يُزهر .. سيروق لك أن تستسلم  لطفرة النمو وتسمح لها أن تُحرر أربطة معتقداتك البالية وتغيّر انعطافات ردودك وأسلوب تفكيرك  .. عند هذا المستوى يحدث تغيير الأفكار ويُعاد تشكيل العقلية .

أما عند منفذ القلب الذي(يُختم فيه عَقد الروح ويوثّق ) ،، عند هذا المستوى" تجد من يجعلك تتدفق من جديد" .. تشعر بأن الطرف الآخر قد سمح لنهر حياتك بأن يجري .. سيتملكك إحساس بأنه قد تم إنعاشك وأنه قد أُضيف لنبضك نبض وضُخّت لعروقك الدماء .. ستشعر وكأنك وجدت تلك القطعة المفقودة من قلبك .. لتدرك حينها بأنك قادر على أن تواجه تحديات الحياة بنَفسٍ أقوى وبعزمٍ أكبر .

أما المنفذ الأخير فهو المعني" بالماديّات " بكل ما يحمله ذلك المفهوم من معنى .. إنه المستوى الذي يُلبي احتياجات جسدك الفسيولوجية من" طعام وشراب وتطبيب وتكاثر ... " في هذه المنطقة تُصك عملة " المصلحة الآنيّة " وبمجرد أن تحصل عليها ينتهي كل شيء .. فأنت ترتبط فيها مع الشريك من أجل إشباع حاجةٍ غريزية فُطرت عليها وحسب. 

والآن لك أن تتخيّل ،، لو كان بمقدورك أن تُفعّل كُل هذه المنافذ بينك وبين الشريك .. فتركّب عقليّتك على عقليّته لتتوافق الأفكار وتتّسق الخواطر ويُأصّل حديث الروح للروح عبر قنوات الحس المرهف ؛ فتفهم صمته وتسمع حديثه وإن حالت بينكما البحار والقِفار. 

تخيّل لو رُكّبت حُجرات قلبك على حُجرات قلبه فكم سيتّسع محراب القلب لتراتيل الفؤاد والصدرُ لأنفاس الحياة. 

تخيّل لو أنك مع هذا كُلّه ،، تجدُ أن مستودع احتياجاتك حاضر ومحطّة تزوّدك بالوقود ملأى على الدوام .. فقلّي بربّك ما الذي سيشغلك حينها عن تحقيق ذاتك ووضع بصمتك على جبين التاريخ. 

فلنعمل جاهدين على أن نتراكب مع شركائنا وذلك  بمجاراة عقليّاتهم وأسلوب تفكيرهم وحثّهم على التدفق .. ولنبحث بصدق عن مساحات التفاهم .. وإن كان بُد أن نشرّع قلوبنا لاحتوائهم وتقبلهم .. ولا نتوانى عن توفير احتياجاتهم وسدّ جوع عواطفهم. 

صدقوني ،، لا شيء في هذا الكون يُضاهي الجمال الكائن في عزف الشركاء لمقطوعة تلاقيهم كُلٌّ على آلته الفريدة بتباينٍ يسمح للمشاعر أن تتراقص وللأرواح أن تتناغم في طرب .



#دعاء_العواودة 

#القاهرة





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تقنيات التدخل في التدريب

حوار " الآيكيدو "

أنا وشيء من وجع