الدعوة العامرة والأرض المعمورة

" وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " 126 البقرة

" وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم "
127 البقرة

" ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" 128 البقرة

" ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " 129 البقرة

دعوة سيدنا ابراهيم ..
رب اجعل هذا " بلدا آمنا " .. دعاء يدل على أهمية هذا الاحتياج الانساني في استتباب قضايا الوجود .. البلد الآمن يجمع صفتي الأمن والأمان ؛؛ الأمن المجتمعي والأمان النفسي للأفراد

لا يمكن للبلاد أن تزدهر ويدوم نسيجها دون توافر الوسيط الأمني المحفز للنهضة وبناء الأمم ..
الترتيب المنطقي في مهارات البقاء البشري تقتضي أن يصطف الأمن بالمرتبة الثانية بعد تلبية الحاجات الفسيلوجية من طعام وشراب ونحوه ..

أما في استراتيجيات البقاء المجتمعي فيعتبر الأمن الركيزة الأساسية التي تقوم عليها كل أركان المجتمع الأخرى

الأمن ..
غذاء الشعوب ومطلبها الأساسي ؛؛ فعندما يحصل البشر على الأمان ؛؛ يرتفع منسوب الطمأنينة والخشوع .. ويمس السلام الأرواح المطمئنة فتخشع ..وتتبتل الطبيعة وتظفر الحضارات

قال تعالى :
" فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "
" وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "
" وهذا البلد الأمين "

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) 35  إبراهيم .

طلب ابراهيم الخليل من ربه أن يجعل مكة بلدا آمنا ومن أجل الإبقاء على نعمة الأمان .. سأله أن يرزق أهل هذا البلد الأمين من الثمرات ..كي تتشكل مقومات الحياة وتبنى ..

ولما كانت مكة في بطن وادي غير ذي زرع ؛ محصورة بين الشعاب .. سأل الخليل ربه أن يؤمّن كل الطرق المهجورة المؤدية إليه وسأله من الطيبات لتستديم فيها الحياة ؛ فتصبح مكة كالقلب تتوسط الكرة الأرضية .. وتضخ عبر شعابها الممتدة كالشرايين نعماً مباركة لا مثيل لها في العالم .. لينْسِل لها من كل فج عميق سيول من الخلق بُغية العبادة والتجارة متباركين بذلك البلد الطاهر المقدس .. فاستجاب الله دعوة نبيه وتعبدت الطرق وتأمّنت المداخل وأصبحت مكة " قلب الأرض النابض " ..



ولما كانت دعائم البيت المعمور قد أقيمت على التقوى فقد توالت دعوات سيدنا ابراهيم وبات يخصص في دعائه ويستأذن من ربه أن يرزق المؤمنين فقط من الثمرات والطيبات ويستثني من كفر منهم

ويأتي الرد الإلهي الحكيم ..
لحبيبه الخليل فأراد أن يعلمه أن عطاء الربوبية ليس كعطاء الألوهية ..
فقال عز من قائل :
" قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير "

" وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم "
127 البقرة

تأخذنا هذه الآية إلى حيث " المَقام " ..
مقَام سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي وقف عليه عندما كلفه الله عز وجل أن (يرفع ) قواعد البيت .

عبرة عظيمة ؛؛
يتركها لنا هذا الحجر تستدعي فينا الوقوف عند شعائر التكليف التي أمرنا فيها الخالق ..
وتستجدي فينا الإخلاص والتفاني والزيادة في التكاليف ؛
فلا نقوم منها مقام الواجب .. بل نزيد في أعمالنا المكلفين بها حبا وشوقا لله وطمعا لما عنده من أجر جزيل ..

لسيدنا الخليل ؛
مقام اتخذه لرفع قواعد ذلك البيت المعمور الذي وضعه الله في الأرض قبل أن ينشيء الخليقة .. ليتخذ منه الناس مكانا للإنابة والتوبة والتطهير من الذنوب ..

فأمر الله الخليل أن يرفع تلك القواعد بما يستطيع وفقا لقامته عليه السلام .. لكن ابراهيم عليه السلام اشتاق للزيادة ودفعه الحب لأن يزيد في العطاء ..
فاتخذ له صخرة يصعد عليها ويكمل رفع البناء بمقدار تلك الصخرة التي أصبحت مَقاما فيما بعد وأثرا نحتت عليها قدمي الخليل التي أذابت الصخرة من خشية الله ..
ويقال أن ابراهيم عليه السلام هو من نحت تلك الأحفورة ليثبت بها قدميه عندما يصعد لاتمام البناء فلا يختل توازنه.


وكأن هذه القصة المعبرة ؛
تريد لفت ألبابنا لقضية الإستقامة والثبات على المبدأ الحق أثناء رفع بنيان الإيمان والتقوى ..

تريد أن تعلمنا بأن نبني أساسات الإيمان بحنكة وحكمة كي لا تسقطنا ريح الفتن إذا ما عصفت بأهل الإيمان ..

 " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" 128 البقرة

عندما يعشق الانسان عبادة ربه ..
تصبح" التكاليف كالحلّي يزين بها الإنسان عمره المحدود " ؛
فهاهو الخليل عليه السلام وابنه اسماعيل ينتهيان من تكليف ربهما برفع قواعد البيت العتيق وقلوبهما تذوب خشية من الخالق وألسنتهم لم تفرغ من دعاء ربهما :
" ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "
يدعوان الله بالقبول وهما في غمرة الطاعة أي خشية تجلوا صدور هذين النبيين عليهما السلام!!

وتمتد سلسلة المحبة ..
ليرصف الخليل وابنه اسماعيل لآليء التكليف في عقد الطاعة التي يتزين بها العبد المؤمن ؛ فيطلبا ربهما أن يجعلهما مسلمين له ..
بل ويتطلع الخليل لما هو أبعد ؛ يتطلع لتوريث حلاوة الطاعة والتكليف لذريته من بعده ليستمر سراج العبادة منيرا في الأرض تتوارثه الأجيال إلى يوم القيامة ..
" ومن ذريتنا أمة مسلمة " ؛
ولم يكتف عليه السلام بل يتابع بحب ويخلص في الطلب وغرف التكاليف فيقول :
" وأرنا مناسكنا "
أرنا الطريق والطريقة التي نعبدك بها يارب ..
لنفوز برضاك عنا ونستحق الجزاء الذي أعددته لعبادك ؛

حب الخليل للتكليف مرتبط بسعيه للتطهير ..
 التكليف مرتبط بالتطهير ..
والتطهير مرتبط بالجزاء ..
والجزاء مرتبط بكرم الله الباسط
كلما تكلف الإنسان أكثر ..
تطهر أكثر وتكافيء أكثر
والله يضاعف لمن يشاء🌾

من يكتفي بأداء الفروض لاسقاط واجب التكليف ليس كمن يجتهد في إتيان السنن والتطوع حبا لله وطمعا بما عنده من الثواب

هذه الآية الكريمة ..
تفيض بالمباديء الإيمانية الراسخة التي تنبثق منها العبادة ..
الإيمان أساسه الحب والتصديق .. وزينته الإخلاص والتقوى

فمن أحب خالقه ..
صدّق بما عنده من عظيم الثواب و(الجزاء) ..
فآمن بكل ما شرعه له من تكاليف تصب في مصلحة العبد وتنشله من برك الذبوب إلى واحات التوبة والتطهير

ثم يختتم الخليل دعواته ب:
" وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم "
ابتدأت الآية برغبة في التكليف وانتهت بطلب التوبة والمغفرة ؛
سياق الآية يشق لنا مسيرة الحياة التي يسعى فيها العبد المؤمن
وكأنها تخبرنا بأن التكليف أمر شاق .. يتطلب من المسلم اجتهادا وصبرا ؛
وأن طريق العبادة ليس ممهدا بل فيه صعوبات وتحديات ..
تريد أن تخبرنا هذه الآية أن هناك مشقة وصعوبة تجعل العبد المؤمن في مهب المحن والفتن .. مما قد يعرضه لارتكاب الذنوب وخوض المعاصي لذلك رحمة الله ومغفرته تكلل هذا العبد الضعيف على طول الطريق بل وكانت المغفرة هي نهاية كل مطاف قد يذنب فيه العبد فمن أراد التوبة فبابها مفتوح لا يغلق أبدا ..
ومتاح للعبد مهما أذنب أن يختم طريقه بالتوبة والغفرآن فتتبدل السيئات إلى حسنات ..

هكذا تستطيب المجتمعات ؛؛
فيدرك افرادها أن العلاج لا ينفذ فكلما أمرضت الذنوب عبدا وجد دوائه في صيدلية الإنابة والرجوع الى الحق فتحدث الاستطابة من داء الذنوب بالمغفرة والرضوان من رب الأرباب ..
بذلك تصلح المجتمعات ويتأصل الخير في الناس ولا يفقد الأمل ..
لأنه لو فقد لعم الشر والفساد أرجاء الدنيا ولاستأسد الناس على بعضهم نتيجة الإحباط واليأس ..

لكن المغفرة أوسع باب يمكن الدخول منه لرحمة الله التي وسعت كل شيء

" ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " 129 البقرة

ما أزكى هذه الدعوات من سيدنا ابراهيم أبو الأنبياء .. فما زال قلبه على ذريته التي ستعقبه من بعده .. يناجي ربه بأن يبعث لذريته من عقبه " رسولا " منهم لماذا ؟
( ليعلمهم الكتاب والحكمة ) ..

ما أرحم هذه الدعوة الخالصة ؛
يخشى الخليل عليه السلام أن تمتد الحقب وتطوى العصور فيخفت نور الحق ويعم الدنيا فترة مظلمة ينتشر فيها الجهل والضلال ..
فيدعو الله أن يتجدد هذا الدين ويبعث من نسل ذريته رسولا يبلغهم آيات ربهم ؛
ويعلمهم " الكتاب " أي القرآن الكريم ..
و" الحكمة " أي سنة هذا النبي القادم وأحاديثه التي تتجلى فيها أحكام التطبيق وفقه التكليف للأصول والفروع ..
إنه منهج التوحيد والإيمان المنسوخ في القرآن الكريم بآياته المشرقة بالحق كالسراج الوهاج إلى يوم القيامة

هذا المنهج الذي أسس على التقوى جاء ليزكي النفوس المؤمنة ويطهرها ويقودها الى طريق الخير وكمال الإيمان وتمامه ..

إن الله هو العزيز القوي القادر على حفظ هذا المنهج من الدسائس والتحريف والحكيم في تدبيره للأمور وترتيبه للأحداث ..

فتبارك الله رب العالمين ..



بقلم ..
دعاء العواودة 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تقنيات التدخل في التدريب

حوار " الآيكيدو "

أنا وشيء من وجع