جروحك المتخمة و فقه الحداد




بطبيعتنا نحن البشر كثيرا ما نشبه الأرض ،، نشبهها بكل ندوبها وتعاريجها .. نشبه أوطاننا بكل جراحاته الممتدة على هيئة حدود متخمةٍ بالفراق ومشوّهةٍ بسياجات الفصل والتمييز .. 

هكذا نحن،، نتنمّط في هذه الحياة وفقاً لطريقة تعاطينا مع الجروح وتتشكل سماتنا وفقاً لردود أفعالنا مع الألم وشكل استجابتنا للمثيرات من حولنا وعلى هذا الأساس تتكون خرائطنا الشخصية .. 

فما أنا وأنت أيها القارئ إلا مساحة رحبة خصبة كانت مستعدة يوما ما للاخضرار تواقة للازدهار جاهزة للحرث مستسلمة لانهمارات الغيم متعطشة للمطر .. 

بل ومصممة لمجابهة السيول والتعامل مع رجّات الأديم ،، لكنها كانت موعودة بعبث الإنسان وعنجهيته دون أن تدري .. ليكلفها ذلك العبث أسطورة اتحادها وتكاتفها .. ولتنقسم بعدها وتتشرذم ولتسقط في مؤخرة العالم. 

ولأنني وأنت نخشى التيه في دهاليز النفس ونخاف الشتات كان حقا علينا أن نختار هيئة تضاريسنا النفسية ونتفهم مدى وعورة الروح التي تحملها أجسادنا المتأهبة دوما لتلقي الضربات على هيئة اعتلالات تصيب أجهزتنا المناضلة. 

ولأننا من الصغر تربينا على الصلابة في مواجهة الأقدار والتصدي للأخطار أصبحنا نرى أن القوي هو من يدوس على جراحاته ويتقن دفن مشاعره المتأججة في مقبرة الصمت الرهيب والتجاهل المهيب  .. حتى أضحت الحياة معركة صاخبة تتطلب مواجهتها تجهيز دفاعاتنا بشكل مستمر للتصدي لأي عدوان خارجي وإن تمثل في شكل نصيحة صادقة. 

تلك الدفاعات والتحصينات المتمثلة بإنكار الحقيقة وعدم قبول النقد والتزام الصمت أو التظاهر بعدم الاهتمام شوّهت مشاعرنا وجرحت نقاء نظرتنا للحياة .. حتى أصبحنا نترصد ونراقب أقوال الناس وأفعالهم بحذر وتوجس يضطرك لتصنيف الناس وإساءة الحكم عليهم .. لتفقد بعدها الرؤية الصائبة للأمور نتيجة توجه رؤيتك نحو الداخل وانشغالك بتبرير ردات فعلك لنفسك بما تمليه عليك معتقداتك التي ترفض أن تعرضها للتجربة لتتأكد من مدى صلاحيتها. 

وكلما ارتفعت حوائطك الدفاعية زاد حجب الحقيقة عنك وزاد إنكارك فتتكرر معك الأخطاء ذاتها وتتماثل النتائج نفسها ليعيد لك الزمان الدروس ذاتها مرارا حتى تتعلم الدرس بالشكل الصحيح. 

تخلصك من دروع الاختباء والتواري خلف سواتر الحقيقة وشجاعتك في هدم حوائطك الدفاعية سيؤهلك لرؤية الطريق الصحيح وسيفسح لك المجال لرؤية أرحب وأكثر اتساعا من رؤيتك الدفاعية كمشروع مكلف يجبرك على أن تبقى حذرا للأبد.. لا بل وتحيلك إلى محارب يقظ حتى في فترات الهدنة والسلام. 

هذا ما تريده منك دروعك النفسية أن تبقى حارساً لجروحك .. كما هم حراس الحدود المصطنعة الذين لم يدركوا يوما أنهم يحرسون جراحات الأوطان النازفة حتى يومنا هذا. 

في الوقت الذي تتطلع فيه الروح إلى التحرر من دفاعك المستميت عن جروحك ومواجهة غضبك المكبوت وآلامك المؤجلة من خلال القبول والمغفرة .. والكشف عن جراحات الماضي لتجف وتشفى بشمس الحقيقة الناصعة. 

صدقني إن بقيت دروعك الدفاعية في مكانها ستخلق لك منعطفا عاطفيا يعطل استجابتك للشفاء ويضر جروحك أكثر.. فتلك الدروع النفسية والذهنية "كالإنكار والتجاهل والصمت" تشوش الحقيقة وتشوهها .. لذا لا بد من (صرف الألم) مهما كان الثمن أو فارق التوقيت. 

قد لا يجدي نفعا في بعض الأحيان استدعاء جراحات الماضي المشوهه ونبشها من جديد ولكن يمكن بدلا من ذلك أن تغير من نمطك في التعامل مع الحاضر وتصبح أكثر صدقا وانفتاحا لتخفف من دفاعاتك المكبلة لعملية الشفاء. 

حاول أن تصل لتسوية مع ندوبك القديمة تلك التسوية تتطلب منك أحيانا على الصعيد العاطفي أن تشيّع بعض مشاعرك المقتولة وترثي بعض آمالك الخائبة وتعلن الحداد على ما فقدت من أشخاص أو لحظات أو ممتلكات. 

عش الحداد بكل مراحلة كمشجع في مدرج رياضي يعيش كل طقوس الحداد على مقعده المتاح عشية ليلة صاخبة.. 

عش جرح الخسارة ثم تأقلم معها وبعد ذلك اقبل ما اختاره لك القدر .. تلك المراحل الثلاث وسائل دفاع فطرية يمكنك من خلالها تجاوز ألمك.. 

ستجد في مرحلة الجرح طغيانا لمشاعر الإنكار ..وفي مرحلة التأقلم ستتصدر لك مشاعر التبرير والأعذار .. وعند مرحلة القبول ترقب مشاعر الإدعاء. 

عملية الحداد تلك تلخص تتطورك العاطفي ابتداء من الارتداد والإنكار لحظة الإصابة أو الخسارة فتصيبك في مقتل تشعر معه انك مستنزف أو مشلول فكريا ونفسيا وهنا يكون الإنكار قد وصل ذروته شيء لا يمكن استيعابه فالحقيقة أقسى من أن تتقبلها نفسك. 

سيأخذك الإنكار إلى آفاق بعيده من التفكير وإلى حالة من عدم الاتزان العاطفي وتود لو أن باستطاعتك تغيير السيناريو وكتابة نهاية أخرى اقل خسارة. 

هنا سيخبرك عقلك "بأن لا أمل" ويخبرك قلبك "بألا تستسلم" 

بعد فترة يبدأ دليل الخسارة في التعاظم والوضوح وإنكارك بالتلاشي والرحيل ويبدأ الجرح بشق طريقٍ له في ثنايا روحك حتى يستقر ويبدأ باستنزافك لتشعر حينها أن شيئا لم يعد آمنا في محيطك وتبدأ بتعزية نفسك وتسليتها بكلمات مضمدة. 

هناك من يستغرق معه الإنكار سنوات وهناك من يتماثل للشفاء في وقت أسرع وهذه المرحلة تدعى خفوت الإنكار حيث تسبق مرحلة التأقلم والتعايش التي تتداخل بداياتها بشكل كبير مع نهايات الإنكار. 

وفي مرحلة التعايش تلك يبدأ هبوب التساؤلات وتعصف بك ريح الاستفسارات بعد أن تتثبت يقيناً أن ما رحل لن يعود ،، وأن ما خسرته لا يمكن استرجاعه. 

لتبدأ بعدها المواجهة مع مشاعرك المكبوته من الألم والغضب والتي تبدأ في اقتحام ما تبقى لديك من إنكار.. تتميز مرحلة التكيف بسلسلة متتالية من الحنين الضار للماضي حيث يتم التواصل فيها مع الحزن المكبوت وراء اللحظات التي لم تعاش بعد،، والكلمات التي لم يتم التعبير عنها .. والمشاريع التي تأجلت فرحتها للأبد .. صندوق الذكريات،، وأشياء أخرى لم يحتد عليها بعد.. 

وليخرج العقل نفسه من بين كل هذا الركام يبدأ في اتخاذ ممر له بين الحطام ليعبر عليه الألم بعيدا هربا من الموقف وبدون تسويات نفسية وهذا ما يؤجل تشييع الحزن في وقته والتعامل مع أكبر قدر من الألم. 

وفي بعض الأحيان يستخدم العقل حيلة الإدانه والاتهام الذاتي إلى الخارج فتلوم وتسخط على من تعتقد أنهم السبب في خسارتك علنا أو سرا في نفسك. 

هذا اللوم عقيم ومنفّر ويفسد أكثر مما يصلح لانه يفتح مجالات للعداء في فترة حساسة ومرهفة من الحزن والحداد. 

ولوقف حجم خساراتك يبدأ العقل في زجك بنفق المساومة وهذا النفق غالبا ما يعلق به المسيطرون الذين ينكرون العجز والذين يعتقدون أنهم يمكن لهم بقوتهم منع المحتوم. 

في مرحلة التعايش ستمر بك العديد من المشاعر التي لن يكون بصالحك الوقوف عندها من تلك المشاعر "الندم والمرارة والسخط".. تجاوزك لتلك المشاعر سيقودك لنهاية مرحلة المعايشة التي قد تطول حيث يبقى جزء من الحزن والألم متخفيا داخلك ومستعد لأن يقودك لحداد جديد..

فذكرى صغيرة قادرة على فتح باب مأتمٍ جديد ، لتنفجر قائمة من الخيارات القديمة التي ما زالت في طور التأقلم وهذا إما أن يتسبب في انهيار سد حزنك من جديد أو اعتبار حنينك للماضي فرصة لتحرير مشاعرك التي لا زالت عالقة هناك. 

في النهاية ،، وبعد كل هذا النضال سترسو نفسيتك في شاطئ القبول والتسليم ستتقبل الحقيقة كما هي بوجهها النقي دون خدوش .. ستكون أيامك مترنحة بين الجيد والسيء ستخلع رداء التظاهر بأنك على ما يرام وستنزع واجهة ابتسامتك الزائفة ستكون حقيقياً أكثر صادقا أكثر وراضيا من قلبك. 

تبدأ أولى علامات القبول عندما تصبح قادرا على الحديث عن خساراتك بحزن محتمل دون حاجة لغلق الموضوع كونه يحرك جراحاتك. 

صدقني حين تشفى عاطفيا ستبقى ذكرياتك قادرة على استثارة شعورك لكن لن تدفعك مرة أخرى لإعلان الحداد. 


#دعاء_العواودة

القاهرة








 










تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تقنيات التدخل في التدريب

حوار " الآيكيدو "

أنا وشيء من وجع